تعالت أصوات الرعد والبرق عبر نافذة المكتب، ونظرت نحوي وهي تضم يديها إلى كتفيها...
- أصبح الجو بارداً،ما رأيكِ لو نغلق النوافذ.
أجبت موافقة: فعلاً، ثم ضغطت على زر( الاسبيكر) إلى جواري وأنا أسألها: ماذا تشربين..؟؟ شيئاً دافئاً ربما؟ قلت مقترحة.
قالت: إن كان بالإمكان، شاي البابونج.
- لكني أقترح عليكِ شراب الكاكاو الساخن، مناسب للأجواء الباردة، ما رأيكِ؟
- لا أرجوكِ يا دكتورة، إلا الكاكاو، ألا ترين كيف أبدو لا أريد أن أزداد وزناً.
- أولا أنا لست دكتورة، إني استشارية اجتماعية فقط، ولقد لاحظت انك تناديني بالدكتورة أكثر من مرة،
- اعتاد لساني على ذلك، الفال لك يا دكتووورة
- آمين، ناديني ناعمة فقط، بدون ألقاب،
- سأحاول،
- ثم تعالي هنا، من قال لكِ إن الكاكاو يزيد الوزن؟ شراب الكاكاو الخالي من الدهون ممتاز للمرأة التي تعاني من الهجر العاطفي، و الاضطرابات ما قبل الدورة الشهرية، هذا فضلاً عن أنه يرفع المعنويات ويعدل المزاج، والأهم أنه يخفف الوزن، ومناسب لتشعرين بالدفئ...!!!
- كلام غريب أول مرة أسمعه، كنت دائماً أعتقد أن الكاكاو يسبب السمنة.

- نعم حينما تأكلين لوحاً من الشوكليت المعدلة بالسكر والدهون، والزيوت، لكن الكاكاو الخام وحدها هي أفضل طريقة للتنحيف!!!
- معقول! معلومة جديدة، اذاً فلنشرب الكاكاو.
- ليس هذا فقط، بل إن الكاكاو توفر للجنسين مشاعر تشبه إلى حد ما نشوة الوقوع في الحب، أي أنها تشبع هذا النوع من المشاعر لدى الأشخاص الذي يفتقدون إليها، سأخبركِ بالمزيد من التفاصيل عبر دورة شوكليت ..
-
والآن أين توقفنا ؟
- زرت في ذلك الصباح الكلية، لأنهي بعض الاجراءات، وهناك قابلت زميلاتي في مقهى الجامعة...
- شموووووه، يالخاينة، يعني مخطوبة كل هالوقت وما تعلمين، شوووه إنت عبالج بنحسدج، والله ما صدقت عيوني يوم شفت بطاقة عرسج قلت هذه مينونة نحن وياها أربعة وعشرين ساعة وما تعلم، حشا طلعتي مب سهلة!
- لا والله إنت مختوبة يا شما، طيب ليه ما بتحكي، هيك خبرية بتجنن والله، تعي تعي حدي احكيلي احكي.
- وين تحكيلج اصبري، خلني أفهم أول، إنتِ الحين عن جد، جد يعني بتعرسين خلاص يعني، وبعدين صدق صدق خذتي هزاع والله طلعتي مب سهلة، ول عليج ول.
وهنا تدخلت سحر: قولوا ماشاء الله أكلتوها بنات، حرام عليكن.
قلت: قل أعوذ برب الفلق... أشفيكن اللي يقول مسوية جريمة؟ الخطوبة والزواج كله تم بسرعة، ما لحقت أقول لكم وبعدين ماكان فيه مناسبة.
- كل هذا ومافيه مناسبة؟ إذا الخطوبة في حد ذاتها مناسبة... لكن اه منج طلعتي مب سهلة.
- أعوذ بالله.
- تعي حدي، قولي، طلعتي معه، حاكيتيه، كيف شكله، عندكِ صوره؟ بدنا نشوفه.
- هييي، إنتِ شو تقولين، أي تطلع وأي تحاكيه، ما عندنا هالسوالف نحن، منقود منقوووووود.
ثم التفتت إلي عواش كبيرة الشلة وقالت: هاااااااه، شموه، ليكون ... صدق طلعت وياه، هلج اسمحولج؟!
قلت متذمرة : لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنتوا أشو لكم في هالسوالف؟ هذه أمور خاصة، ما لكم دخل فيها.
تخلصت منهم بصعوبة، وجلسنا أنا وسحر على طاولة بعيدة، حينما سألتني: لما لم تخبريهم؟ عن نفسي احترمت رغبتكِ وأخفيت عنهم أني أعلم، لكني أستغرب إخفاءكِ لخبر سعيد كهذا، الخطوبة ليست عيباً.
- الخطوبة ليست عيباً صح، لكن تخيلي أن الخطوبة لم تنتهي بالزواج، وأنه أو أنا غيرنا رأينا، وذهب كلاً منا في حال سبيله، ماذا سأقول لهم؟ أرأيتِ كيف عانت حليمة، حينما تم فسخ خطبتها، أرأيتِ كيف كانوا يسخرون منها، عواش بالذات كانت تقول عنها :أنها تستاهل، وأنه اللي خطبها أكيد عمي... ترى البنات ما ينعطون ويه ياسحر.
- صح كلامكِ، لكن الآن سيحقدون عليكِ أكثر.
- غير مهم، جمعتنا الجامعة، وعلاقتي بهم مؤقتة، وسطحية، بينما ما يهمني هن صديقاتي المقربات، أنت، وبنات عمي، ورؤى.
- أي صحيح، تذكرت رؤى، كيف حالها؟
- بخير،دائماً أنا وهي على تواصل صوت وصورة. تقول: إن الدراسة في بريطانيا متعبة، وإنها تشعر بالوحدة. الله يصبرها بصراحة.
- هل ما زالت تدرس الطب، أم غيرت ؟
- الطب، نعم، هذا شغفها.
وهنا لمحت طيف شذى تأتي من بعيد...
- سحر، شذى قادمة، لا تلتفتي.
كانت شذى، أكثر الفتيات غروراً في الجامعة، جميييييييلة، طويلة، رشيقة،أنيقة، كل المميزات فيها، وأنا شخصياً، أغار منها، وأحب لو كنت مثلها، وهي تتعمد دائماً أن تتباهى بمميزاتها.
اقتربت منا وكانت عيناها الثاقبتان تنظران لي مباشرة حينما قالت : والله وطلعت شاااااااااي، بل بل، أخذتِ هزاع !!!! لطشتيه من على باب الجامعة!!!؟؟؟ بس كيف ومتى؟؟ واللي يشوفج يقول ما تعرف هالسوالف، من كان يصدق، ولا بين عليج .. مب مصدقة.. شي غريب بصراحة.
- شو قصدج، شو لطشتيه وما لطشتيه شو التلميحات اللي ما لها معنى، وبعدين ليش ما يسوى لي هزاع مب تارسة عينج يعني .
- لا العفو، ما قصدت، لكن كيف ؟ ومتى ؟ أأه والله الدنيا حظوظ، يالله على البركة الله يتمم لج على خير، لا تزعلين مني والله ما قصدت شيء.
وهنا سمعت وبصوت عال: شما، مبروووووووك.
التفت سريعاً، لأرى أبله عفت، مشرفة التسجيل، تفتح ذراعيها لاحتضاني...
- مبروك يا شما، تستاهلي الفرح ربنا يتمم لكِ على خير، وشكراً على الدعوة، بس تعالي قوليلي هنا، أنتِ كنتِ مخبية الخبرية دي لييييييييييه، هو فيه اييييييييييييه.
فيما ظهرت ميثا فجأة ،وهمت بتقبيلي...
- شما مبروك الغالية تستاهلين كل خير، والله فرحت لج من كل قلبي، أنتِ طيبة وتستاهلين، تعرفين إن بنت عمي ماخذه أخو هزاع الكبير، تقول هله ناس طيبين وااااااايد، وانج بترتاحين عندهم.
كان يوما شااااااااااقاً للغاية، وبالكاد استطعت العودة إلى المنزل، قبل أن أفقد عقلي، لم أتصور أن وقع الخبر سيكون عليهم بهذا الشكل، كنت أفكر طوال الوقت في أنهم ربما يرون أني لا أستحق أن أكون عروساً؛ لأني لست نحيفة، ...!!! كنت في أعماقي دائماً ما أشعر أني أقل شأناً من الأخريات، وأني لا أستحق ما تستحقه جميع البنات، تصدقين يا دكتورة، كان هذا الشعور يلازمني طوال الوقت لكني لأول مرة في حياتي أواجهه، أو أعترف بأنه موجود.
- غالباً يا شما فإن ردة فعل زميلاتكِ في الجامعة ما هو إلا إنعكاس لمشاعركِ الداخلية تجاه ذاتكِ.
- لكن كيف يا دكتورة؟ عفوا أقصد... يا استاذة ناعمة، هن لا يعرفن بما يدور في داخلي، كما وإني أحرص على أن لا أظهر تلك المشاعر.
- لستِ بحاجة إلى إظهارها ليشعرن بها، تكفي سلوكياتكِ التي تعبر عن نوعية أفكاركِ، أنا لا ألومكِ على إخفاء نبأ الخطبة، فلكل إنسان خصوصياته، لكني أعتقد أن الأمر الذي دفعكِ لإخفاء النبأ يعود إلى مخاوفك الداخلية،هل تخافين العين يا شما ؟؟!!!
- نعم، أخافها ومن لا يخاف العين؟! فالعين حق .
- يمكنني أن أخبركِ فوراً بأن نصف معاناتكِ في حياتكِ هي بسبب الخوف من العين، وليس العين نفسها.
- مستحيل ... كيف؟ لم أفهم فسري لي من فضلكِ ؟
- سأشرح لكِ الأمر لاحقاً، بينما عليكِ الآن أن تتابعي سرد بقية الأحداث .
حاولت النوم في تلك الليلة، التي سبقت ليلة الزفاف، لكن شيئا ما، كان يمنعني، كنت قلقة، خائفة، ومترددة، ووجدت نفسي، أواجه مشاعر من نوع آخر، شعرت فجأة إني بالفعل أصبحت امرأة، ولم أعد طفلة.
وإني سأفتقد أمي وأبي كثيراً، وشقيقي وشقيقتي أيضاً، لقد كنا نحن الثلاثة قريبون من بعضنا بعد زواج أشقائنا وشقيقاتنا، الأكبر سناً،... ساورني تلك الليلة، حنين شديد لاحتضان والدتي والنوم في صدرها، .. لن تصدقي، بل تمنيت أن أعود طفلة وأنام في الوسط بين أمي وأبي.
لا أعرف لما شعرت بكل هذا الحزن، لدرجة أني بللت مخدتي بالدموع، ... وكأن أمي أحست بي، ففاجأتني بزيارتها إلى غرفتي بعد منتصف الليل...
- شما.
- هلا أمي.
- مستيقظة؟
- نعم.
- توقعت ذلك.
اقتربت مني برائحتها الزكية، وضمتني إلى حضنها، فلم أتمالك نفسي وبدأت أبكي...
- أمي... لا أريد أن أترككِ، سأشتاق إليكِ يا أمي، سأشتاق إلى أبي.
- سنكون دائماً قربكِ، وسيمكنكِ أن تزورينا في أي وقت شئتِ.
بقيت أمي معي تلك الليلة حتى غفيت، ولأول مرة تحكي لي، كيف بكت طويلاً في الليلة الأولى التي نامت فيها في بيت أبي، بعد الزواج، وكيف أنها كانت صغيرة وكانت لا تزال بحاجة إلى والديها، بينما وجدت نفسها وقد أصبحت زوجة، وتقول بأن حنان والدي، وطيبة قلبه معها عوضاها عن حنينها لوالديها الذين كانا يسكنان في منطقة بعيدة عن منطقة أهل أبي ... شعرت بها وقد عادت طفلة خائفة وقلقة، وهي تصف حزنها لفراق والديها، وهي في تلك السن المبكرة، حبيبتي أمي، كانت ذات يوم هي الأخرى مجرد طفلة.
يتبع...