- حينما استيقظت في صباح اليوم التالي، شعرت براحة نفسية غريبة، وكأني إنسانة جديدة، وكأن الحياة أصبحت من حولي هادئة، منيرة أكثر إشراقا، وكأن كل الصخب والضوضاء التي كانت تسكن عقلي قد تلاشت، وكل الاستنزاف الذي كان يسرق مني طاقتي، ويستولي على مشاعري قد اختفى، لا أعرف كيف أصف لك شعوري!! لقد كنت أحلق في سماء صافية، وكأن حياتي فجأة أضحت سماء بلا غيوم، يا الله !! أيقنت في تلك اللحظة كل ما تقصدين حينما قلت إن المشاكل التي أعانيها تسكن عقلي فقط، ولا يمكنها أن تستوطن حياتي ما لم أسمح أنا لها بذلك،
شعرت يا دكتورة بأني عائدة من رحلة سفر جميلة، وكأني قد سافرت إلى إحدى الجزر البعيدة، وكأنه لم يكن هناك غيري أنا وهو، رغم أني كنت في دبي التي تشتهر بكثافتها السكانية، وبزحمتها في هذا الوقت من العام، لكن أجواء الرحلة في حد ذاتها، جعلتني أدرك أن دبي هي مدينة المليون وجه، فكل ما تريدين أن تريه سترينه فيها، لقد استطعت أن أنعم بأجواء احتفالية خاصة بيني وبين زوجي، كما نعمت بمساحة من الهدوء، وفي الوقت نفسه رأيت التطور العمراني الهائل في دبي مول، وبرج خليفة،
قضيت النهار بطوله وثمة لذة رائعة في فمي، وكأني قد تناولت شيئا سكريا لذيذا، ولم تغادر تلك اللذة لساني حتى اليوم، فكلما تذكرت الوقت الذي قضيناه معا هناك أشعر بنشوة سعيدة، ليت حياتي تستمر سعيدة هكذا دائما، ليت علاقتي بهزاع تستمر سعيدة إلى الأبد،
ثم سألتها: ما هي ملامح الحياة أو العلاقة الزوجية السعيدة التي تحلمين بها يا شما؟!
وكأن سؤالي قد باغتها، فنظرت إلي باستغراب ثم قالت: اممممممممم، لا أعرف على وجه التحديد، فهناك الكثير من الأشياء، لا تحضرني حاليا، امممممممممممم دعيني أفكر، لقد فاجأتني بالسؤال!! هل علي أن أجيبك الآن...
أومأت برأسي، أن نعم، حاولي ... فكري قليلا وأخبريني بما تحلمين به في الحياة الزوجية السعيدة ....
وإني أوجه نفس السؤال لكل قارئة وقارئ، من المهم أن تواجهون أحلامكم الخاصة بعلاقاتكم الزوجية، وأن تطلقون العنان لها، لتكتشفون أي نوع من العلاقات تلك التي تناسبكم....
وبعد برهة بدأت تجيب:
- سأخبرك، إني أريدها علاقة مستقرة، ... يعني استقرار في الحياة وشعور بالأمن معه، ...
- وكيف يحدث أن تشعري بالاستقرار والأمان معه غاليتي...
- والله يا دكتورة، أشعر بحيرة كبيرة، فكيف أصف لك الاستقرار الذي أحلم به أو كيف أفسر لك الشعور بالأمن الذي أحتاج إليه، هذا صعب جدا، لكني بالتأكيد حينما أشعر بالاستقرار سأشعر به، وكذلك حينما ينتابني الأمن سأعترف بأني آمنة .
- غير صحيح، فكل إنسان له طريقته في تفسير كل شيء من حوله، فلعل ما يشعرك بالاستقرار قد لا يشعر غيرك إلا بعدمه، وما يشعرك بالأمن لا يكاد يشعر غيرك إلا بالخوف، فما رأيك في ذلك ؟
- مستحيل كيف ...؟!!! الاستقرار والأمن له صورة واحدة، وجميع الناس في كل مكان يتفقون عليها، هذا هو المألوف....
- غير صحيح، ... لكني سأستمر معك للنهاية، لأوضح لك الصورة كاملة، أخبريني ما هي الأجواء التي تشعرك بالأمان والاستقرار يا شما؟!!
- ماذا تقصدين بالأجواء يا دكتورة؟!
- أقصد تلك الصور التي تعانق مخيلتك كلما فكرت في الاستقرار أو في الإحساس بالأمان، حاولي أن ترصدي تلك الصور التي تمر يمخيلتك كلما تحدثت عن الاستقرار الأسري أو الأمان العاطفي...
تنفست الصعداء، فأدركت أنها بدأت تستوعب ما عنيت، ورفعت رأسها عاليا وهي تشهق المزيد من الهواء، وتعود لتزفره مجددا، ثم قالت وقد بدى الارتياح على قسمات وجهها:
الاستقرار في نظري هو أن يعود هزاع من عمله لتناول الغداء في البيت معي، ومع أبنائي، لكنه غالبا ما يتأخر في عمله حتى الخامسة مساء ،وأحيانا إلى السادسة، حيث يكون مرهقا للغاية، كما يكون قد تناول غداءه في العمل، كثيرا ما أحلم لو أننا نقضي الوقت معا، عند المساء، لكنه بالكاد يجد الوقت لينهي بعض المهام، ثم يخرج بصحبة رفاقه إلى أحد المجالس أو المقاهي، ويعود بعد أن تناول عشاءه في الخارج، وأكون أنا أيضا قد تناولت عشائي مع أطفالي، ... أشعر أني أفتقده عند تناول الوجبات، لست متأكدة من أهمية أن يتناول إحدى الوجبات معنا، لكني متأكدة من أني أحتاج فعلا إلى ذلك، وكثيرا ما أشعر أني أحن إلى بيت أهلي، حيث (اللمة ) العائلية في المساء على طاولة العشاء، كم أفتقد تلك الأجواء الحميمة!!! ... ( تغرورق عينيها بالدموع )
كم أفتقد رائحة الطيب والبخور التي تفوح من أبي وهو عائد من المسجد بعد صلاة العشاء، ورائحة الشوربة اللذيذة التي تعدها أمي، وهي تزين صدر المائدة، وأصوات أشقائي وشقيقاتي وهم يتضاحكون ويتمازحون قبل أن يجلسوا إلى المائدة، تلك اللمة كم أفتقدها،
ثم تخفي عينيها بكفيها، في محاولة منها لتداري دموعها ورغبتها في البكاء....
هذا هو الاستقرار الذي أحلم به يا دكتورة،... هذه هي العائلة التي كانت تشعرني بالأمان والاستقرار الذي لم أعد أجده عند هزاع، فهو دائما غائب، وغالبا مشغول، وغير متفرغ، ولا يحب تناول الطعام في البيت، ويفضل السهر في نهاية الأسبوع مع الأصدقاء، وغير ذلك، حتى لأشعر أحيانا بأني وحيدة، فأحمل أطفالي وأذهب لزيارة بيت إحدى شقيقاتي، أو أهله أو أهلي، أو صديقاتي، بحثا عن الألفة والتغيير، والحميمية التي أفتقدها في بيتي وفي علاقتي بهزاع أحيانا.....
فقلت لها: ليس بالأمر الجديد، فكل إنسان يقيس حياته وفق ما أختبره من مفاهيم، وما عايشه من تجارب، وقد كانت تلك الأجواء العائلية التي تمتعت بها في بيت أهلك، هي مقياسك الخاص لرصد مستوى الاستقرار في حياتك الزوجية والأسرية الخاصة، ذلك لأنك اختبرت الشعور بالاستقرار بناء على تلك الأجواء، أي إن دماغك تفاعل بكيمياء الاستقرار والإحساس بالأمن، إثر تلك الصورة المتكررة لعائلتك كل مساء، ... فباتت تلك الصورة هي المقياس الوحيد لديك لرصد مستوى الاستقرار في بيتك، أو علاقتك بزوجك، أو حتى حياتك الخاصة، لكني أريدك أن تعودي بذاكرتك إلى الوراء، وتذكري هل كانت تلك الأجواء موجودة في بيتكم منذ أن كنتم أطفالا صغارا ؟!!
فاجأها السؤال من جديد، ثم قالت مذهولة: في الحقيقة لا، لم تكن تلك الأجواء متوفرة في طفولتي، ... لم تكن الأجواء كما أصبحت عليه في مراهقتي...
فسألتها: لماذا؟ ... كيف كانت يا ترى ؟!!!
فقالت وكأنها قد أدركت المغزى من سؤالي: لم يكن والدي يتناول العشاء معنا في الحقيقة، لأنه كان يقضي وقته في مكتبه الخاص، في الصباح يذهب إلى دوامه الحكومي، وفي المساء لديه مشروعا خاصا يديره بنفسه، وهذا المشروع بات اليوم مشروعا كبيرا، تديره شركة متخصصة، لكن في البدايات كان أبي يديره بنفسه، ولهذا فقد كان يقضي المساء في المكتب، ثم حينما يخرج من المكتب يعرج على بيت أهله المجاور لبيتنا، ليجلس في مجلس والده، حيث إنه كان مجلسا عامرا بالشخصيات والضيوف، وكان جدي يعتب على والدي عدم حضوره مجلسه، ولهذا فهو ما إن يجد فرصة لذلك حتى يسرع إلى هناك،
كانت والدتي تشكو من هذه العادة لوالدي، وكثيرا ما كانت تعاتبه، بل وقد تتشاجر معه أحيانا، لأنها تشعر بضغط مسؤولية تربيتنا وحدها، وهذا في حد ذاته كان يسبب لها الكثير من الألم، وكنت أنزعج كلما همت بالشكوى والتذمر، لأني أشفق غالبا على والدي، إذ كنت أشعر أنه لا يكاد يرتاح في أي مكان، فهو من العمل إلى المكتب إلى المجلس، ثم يأتي ليواجه سيل الشكاوى والبكاء من والدتي...
لكن الحياة قد تقدمت بنا، فكبرنا ولله الحمد، بينما تقاعد والدي مؤخرا، كما إن مشروعه كبر وتوسع وبات لديه من يديره له ويشرف عليه من أشقائي إلى أبناء عمومتي، فاستطاع أخيرا أن يسترخي وأن يتفرغ لنفسه ولعائلته، نعم يا دكتورة، بدأت أفهم ما ترمين إليه.
أنا وهزاع لازلنا في بداية حياتنا الزوجية، ولهذا فإن البدايات من الطبيعي أن تكون صعبة، وهو في الوقت الحالي يحاول أن يؤسس نفسه، ومن حقه أن يحصل على بعض الترفيه بعد عناء يوم طويل ... غريبة تلك الطريقة التي جعلتني أدرك بها ذلك الفرق بين ما عايشته مؤخرا في بيت أهلي بما أعايشه حاليا في بيتي، سبحان الله، لا أعرف كيف أني لم أفكر يوما بهذه الطريقة؟ فهل تقصدين يا دكتورة، أن الاستقرار العائلي موجود؟ لكنه لازال وليدا، وبحاجة إلى الوقت لينمو...
- نعم إني أقصد ذلك... وأقصد أمرا آخر أيضا سأشرح لك حالا....فمن حقك أن تطالبي هزاع بأن يخصص وقتا لك ولأطفالك، لكنك لا تعرفين الطريقة المثلى لذلك، أنت غالبا تكررين نفس الأخطاء التي كانت ترتكبها والدتك، على الرغم من أنك كنت تلومينها في طفولتك، والسبب هو أن الإنسان الذي لا يعرف وسيلة أخرى لعلاج مشاكله يكرر ما سبق له أن اعتاد عليه من عائلته، أو من يشكل قدوة مثلى لديه....
- هل تقصدين أني أكرر أخطاء أمي؟ أي أني أقسو على هزاع فعلا؟!! لكني لا أفعل، إني بالفعل أعاني من غيابه الدائم، وهو يتعمد ذلك الغياب...!!!!
- لا تقلقي، أنا لست هنا لألومك، بل لأوضح لك أخطاءك ولأوجهك إلى الصواب، لما تقلقين هكذا كلما شعرت بالانتقاد، لماذا دائما ما تشتاطين غضبا لمجرد اعتقادك بأن هناك انتقاد موجه لك، عليك أن تسترخي، إني أتفهمك جيدا، إن ألمك هنا لا يختلف مطلقا عما كانت تشعر به والدتك من ألم، لأجل غياب والدك الطويل عن المنزل، أو عن أوقات الوجبات، الرئيسية، كل هذا أفهمه، وسأساعدك على علاج هذه المشاكل التي تضغط على أعصابك.
يتبع...