لعلكِ تتساءلين الآن لماذا لم أفكر في حظر رقم هاتفها فلا يعود بإمكانها مراسلتي، لقد حظرته لتراسلني من رقم آخر؛ لم يكن الأمر صعباً بالنسبة لها، إنها دائماً قادرة على التواصل والوصول بكل الطرق الممكنة. وإن كنتِ تتساءلين لما لم أشتكها، فقد فضحت نفسي إن صح التعبير من عدد المرات التي اشتكيتها. تخيلي لم يكن الأمر يزعجها بقدر ما يزعجني، لم يعد الأمر يسيء إليها بقدر ما يسيء إلي، فقد كنت في كل مرة أبدو كما لو كنت أنا الشريرة التي أغار من تلك الجميلة على زوجي فأشهر بها وأفضحها حتى وصل الأمر إلى مسامع أهلي فباتت أمي تحذرني من الحديث عنها بالسوء أمام الناس. ببساطة كانت هي والناس في النهاية ضدي واستطاعت بخبثها أن تكسب التأييد، لم يكن الأمر سهلًا أبدًا . كل هذا ستكتشفينه عبر الأحداث، لكني أحببت أن أعطيكِ فكرًة واضحًة عن كل ما حدث وعن كل الألم الذي قاسيته على يديها طوال الأربع سنوات التي هي عمر زواجي من هزاع.
- ما رأيكِ أن نخرج للجلوس مع شقيقاتي ونغير هذه الأجواء الكئيبة، إنهم يقيمون حفلة شواءٍ على السطح.
استمتعت فعلًا معهن فهن خفيفات دم وبدا أنهن يتقاسمن الكثير من الذكريات الممتعة مع هزاع، فقد تأكدت أنه كان شقيقًا حنونًا لأخواته وطيب القلب وصديق، تمامًا كأشقائي لي. قالت وديمة وهي تسكب المزيد من الشاي لهزاع: إياك أن تفاجئني فما زال زوجي حتى اليوم يتربص بك انتقامًا لأجل ما فعلته بي مسبقًا.
فضحك هزاع من كل قلبه وهو يردد: حاشا، والله إني ما قصدتها ذلك اليوم، جاءت صدفة وصدمت بها؛ هل تعتقدين أني قد أتسبب في إحراق يدكِ عمدًا؟ إلا هذا يا وديمة، فأنا وإن كنت أحب المزاح إلا إنني أختار المزحة الآمنة. لا يمكن أن أثير خوفكِ بينما تسكبين الشاي، لا تصدقي ذلك.
- لكن زوجي يعتقد أنك فعلتها متعمدًا.
- و هل تصدقينه يا وديمة؟ أنتِ أختي ولن أخطط أبدًا لألمك.
- أعلم لكني أمزح معك.
فسألت بعد أن أثار الموضوع فضولي: ما القصة يا هزاع وأنتِ يا وديمة، ما من شر. فنظرت وديمة إلى هزاع متسائلة: هل أخبرها أم تخبرها أنت؟ لكن هزاع قال لوديمة: أخبريها أنتِ ولكن تذكري بأني موجود و أسمع فلا تبالغي ولا تحاولي لومي على موقف لم أقصده إطلاقاً. فاعتدلت وديمة لتروي حكايتها مع هزاع وهي تنظر إلي تارة وإلى هزاع تارة أخرى :
- في أحد الأيام وكان ذلك قبل عامين من الآن، وبينما كنت أنا وزوجي في زيارةٍ إلى بيت أهلي كما أنا الآن، وحيث إني كنت في المجلس أسكب الشاي لزوجي الذي يجلس وحيدًا وأسليه ريثما يصل هزاع، دخل الأخ الكريم من خلفي بهدوءٍ وهو لا يعلم أني أحمل إبريق الشاي حيث إني كنت أجلس على الأرض في تلك اللحظة، وكان زوجي قد خرج يغسل يديه فدخل هزاع من خلفي وصرخ بي عاليًا حتى أثار رعبي فسكبت الشاي الساخن جدًا على معصمي وبدأت أصرخ، فما كان من زوجي إلاّ أن خرج ليرى هذا المشهد منذ الصرخة الأولى لهزاع حتى الصرخة المتألمة التي تلتها مني، فأسرع إلى تهدئتي فيما هرول هزاع ليجلب الثلج من الثلاجة إلا إنه لم يجد أحدًا، حيث إن زوجي هم بأخذي للمستشفى، وحينما لحق بنا هزاع إلى هناك رفض زوجي مقابلته أو الحديث إليه، وبدأ يتحدث عنه على أنه مستهتر ولا يهمه إلا أن يمزح، وقد أثر هذا الموقف كثيرًا في علاقتهما معًا فإلى اليوم وهما على وفاق متوتر.
فقلت قلقة: وماذا حل بمعصمكِ، هل تركت الحروق أثرًا؟
- نعم بالتأكيد، وكنت كلما رأيت الأثر تذكرت شجارهما الكبير الذي حدث لاحقًا في بيت أهلي، كما وأن زوجي بقي متحاملًاعلى هزاع إلى يومنا هذا فهما ليسا على وفاق. إن زوجي ابن عمنا لكنه جدي جدًا ولا يحب المزاح مطلقًا فما بالكِ إن كان مزاحًا ثقيلًا وتسبب في ندبةٍ كان من الصعب أن تزول!!!
فأجبتها متفائلة: لكني لا أرى أثر تلك الندبة على أيٍ من معصميكِ.
- صحيح، فقد أزلتها قبل 3 شهور بالليزر، والحمد لله لم تعد كما كانت فهي لا تبدو واضحةً إلا في النور الساطع ومع الأيام ستختفي بإذن الله فقد بشرني الطبيب بذلك.
- قلت مواسية : بإذن الله.
بدا لي أن علاقة هزاع بشقيقتيه علاقةٌ حميمة للغاية إذ يصبحون كالأطفال حينما يجتمعون للحديث وشعرت بألفة كبيرة في هذه الأجواء. شعرت أني لو تباسطت أكثر معهم سأصبح صديقةً لهم وأندمج في أجوائهم، ليس هذا فقط بل سأعتاض بهم عن فقدي لأجواء شقيقاتي وأشقائي، فهم مثلنا ولا يختلفون عنا، نفس العلاقات ونفس الأحاسيس. لديهم أسرارهم الخاصة التي يخفونها عن كبار العائلة؛ أسرارٌ بريئةٌ تخصهم، و في المقابل لديهم همومهم أيضًا التي يتسامرون بها ليتسلون عنها. لم تختلف الأجواء وكل ما هنالك أني لم أقاسمهم طفولتهم ذات الذكريات الجميلة، لكن هذا كان جيداً فقد وجدت ما يمكنني أن أحكيه لهم عن طفولتي أيضًا واستمتعت بذكريات طفولتهم. طبعًا أنا لم أحكي كل شيء، فقط ما يجعل طفولتي تبدو رائعة. لم أخبرهم أن بعض الأطفال كانوا يسخرون من سمنتي في طفولتي، لكني أخبرتهم عن ذكرياتي الجميلة في المدرسة حيث إني كنت متفوقة وكذلك مغامراتي أنا و شلتي الصغيرة التي كنا نقوم بها في الحي.
لمست أمرًا أخر، فشقيقاته غير مهتمات بفصلي عنه و لسن غيورات مطلقًا بل إنهن يشعرن باستقلالية كبيرة على عكس ما كنت أسمعه غالبًا بأن شقيقات الزوج يغرن عليه ويؤذين الزوجة ويتسببن في إشعال المشاكل، بالعكس تماماً يا دكتورة فكل واحدةٍ منهن لديها حياتها الخاصة ومستقلة تمامًا، لكنهن في المقابل يحببن بعضهن البعض بدون فرض وصاية من إحداهن على الأخرى أوعلى الآخر. أحببت ذلك منهن وشعرت براحةٍ كبيرة بينهن وتمنيت أن تدوم الأحوال هكذا لكن للأسف الشديد لقد أفسدت الأمور في النهاية بسبب تصرفاتي الهوجاء إثر مشاكلي مع مي. لا تتخيلين كيف أني أفسدت كل شيء ومزقت علاقتي بهن في لمح البصر، خسرت أختين كانتا مستعدتين لتفعلا أي شيء من أجلي، لأني زوجة شقيقهن المحبوب. تحولت في يومٍ وليلة إلى امرأةٍ نكده في نظرهن لأني ... ماذا أقول لكِ وماذا أبقي، ستعرفين كل شيء في حينه.
المهم أن هزاع حاول أن يدفع التهمة عن نفسه قائلًا: لم أكن أعلم أنها تهم بسكب الشاي إذ إني دخلت من الخلف ولم أكن أرى يدها، لكني ما إن سمعتها تصرخ حتى شعرت بذنبٍ شديد واستوعبت أنها أحرقت معصمها و لا أعرف كيف وصلت إلى الثلاجة فقد هرولت قلقًا ومذعوراً عليها، لكني ما أن عدت بالثلج لم أجدها حتى شعرت بذنبٍ مضاعف. وركبت سيارتي أملًا في أن ألحق بهم للمستشفى لأجد زوجها وقد جن جنونه فهو لا يحبني كثيرًا وأنا وهو لسنا على وفاق؛ إنه رجٌل جدي بحكم شخصيته ثم بحكم عمله، وأنا إنسانٌ مختلف أحب الحياة والمزاح و هذا جعله للأسف يخرج عن أصول اللياقة ويطلب مني مغادرة المستشفى لكي لا يتشاجر معي، ولكني أخبرته أني أريد الاطمئنان على صحة شقيقتي، وفي النهاية تشاجر معي فعلاً لكن هنا في البيت، ورغم كل محاولات الصلح إلا أن التوتر ما زال قائمًا بيننا.
بدا لي أن هزاع يحبه، يحب زوج شقيقته ويرغب في أن يتصالح معه لكنه لم يجد أي وسيلة جيدة لذلك.
بعد عدة ساعات، قال هزاع مستبشراً: ستشرق الشمس خلال لحظات. فردت وديمة: إذاً سأذهب لأصلي ثم أخلد للنوم، تصبحون على خير. بينما قام هزاع وهو يأخذني من يدي وقال: تعالي، سأريكِ شروق الشمس كيف يبدو رائعًا من هنا. طوقني بذراعه قائلًا: اشتقت إليكِ. ثم استنشق شعري وقال: ما أزكى رائحتكِ بدأت أدمن عليها، ما هذه الرائحة التي تعطرين بها شعركِ، رائعة. شعرت بكهرباء سرت بسرعة في كل خليةٍ من جسدي بمجرد أن هم باستنشاقي وتوترت أطرافي فقال: ما بكِ، هل ما زلتِ تخجلين مني؟ لكني حاولت أن أخفي توتري ولم أفلح، فقال مشجعًا: تعالي.
- إلى أين ؟
- إلى النوم.
ثم فجأةً هم بحملي فصرخت مذعورة: لاااااااااااااااا، أرجوك لا، حلفت عليك أن تنزلني أرجوك.
- اهدئي، استرخي وإلا أسقطتني.
فقلت محاولًة الهدوء وأنا أطوق رقبته بذراعي خوف السقوط: يكفي إلى هنا ويكفي أنزلني من فضلك.
لكنه قال متأكدًا: لن أنزلكِ إلا على السرير.
- يا ربي، لا أرجوك هزاع من فضلك، أعرف كم أنا ثقيلة.
- ليتكِ تعرفين أيضًا كم أنا قوي، فأنا أحمل أضعاف وزنكِ في الجيم.
- وإن يكن، من فضلك يكفي إلى هنا.
لكنه ضمني إليه أكثر وقال: ها قد وصلنا خطوات ونكون في غرفتنا.
كان يسير بي بخفة، لم أشعر أني ثقيلةً بين يديه ولم أشعر به متعباً من حملي، بل على العكس أدركت حينها أنه معتاد على حمل الأثقال فعلًا.
يتبع...