تركتها تتحدث عنه، لنصف ساعة دون توقف، تتحدث عن مشاعر الشوق التي تغمرها، وعن الألم الذي يمزق قلبها لذلك الفراق، لأنني متأكدة من أن هذا سيريحها فهي على أي حال لا تستطيع أن تشكو لأي شخصٍ أخر ما تشكوه لي لحساسية الأمر من جهة، ولحرصها على إخفاء الحقيقة عن عائلتها من جهة أخرى.
لكني في الوقت نفسه كنت أستعد لأشرح لها لماذا تتألم هكذا، بشكل يجعلها تفهم أن ما تمر به ليس إلا مرحلة ستنتهي قريباً، وتعود بعد ذلك أقوى بكثير مما كانت عليه.
بدأت حدة شكواها تخف تدريجياً، ثم دخلت في مرحلة الصمت والتحديق في الأرض بينما جفت دموعها فعلاً، فيما بقي أنفها المحمر متورماً من شدةِ البكاء، وهنا انتهزت الفرصة وهمست لها: كوباً من الآيس كريم؟ لتقول -وهي ما زالت تحدق للأسفل- : بالشوكليت من فضلك، فاجبتها: حالاً.
وما أن بدأت أطلب كوب الشوكوليت حتى، بدأت تلتقط أنفاسها في مواساة صامتة لنفسها، فهي في نهايةِ الأمر ستستمتع ولوقت قصير بكوب من الآيس كريم، يخفف عليها حدة الألم الذي تعانيه، اعتدلت في جلستها وقالت: أعتقد أني سأكون مرتاحة أكثر في الجلوس والحديث لو انتقلنا للأريكة.
- بالتأكيد غاليتي، هيا بنا.
انتقلت إلى هناك بقدمين مثقلتين، ثم جلست وهي تحدق من جديد إلى الأرض، و انتقلت أنا لأجلس في الأريكة المقابلة، وتعمدت ذلك هذه المرة، فأنا أريد أن أواجهها، أريد أن أكون نداً لأفكارها السلبية، وصل طبق الآيس كريم، وما أن رأته حتى قالت: أوه إنه مع حلوى المارشميلو.
- المشوية أيضاً، هل سبق لكِ أن تذوقتِ هذا الخليط الغريب؟
- لا، لكن تبدو شهية.
- وفي الأسفل ستصادفكِ كب كيك ساخنة تغمرها النوتيلا.
- حقاً، يا إلهي كم سأستمتع بالطعم.
استعادت شما أخيراً بعضاً من طاقتها، و بعضاً من بهجتها. وهذا يجعلني أأكد دائماً على أن الإنسان يزداد اكتئاباً بعد الصدمات العاطفية، حينما يحرم نفسه من الخروج، أو تجربة الأشياء الجديدة، وأن أفضل و أسرع الطرق للخروج من اكتئاب ما بعد الفراق هو السفر إلى بلدٍ جديد، أو التعرف على أصدقاء جدد، أو زيارة مطاعم ومنتزهات وفنادق جديدة، أو القيام بانشطة ورياضات لم يسبق لك القيام بها، كل هذا من شأنه أن يساعدنا جميعاً على تخطي السقوط في هاوية الأكتئاب بعد فقد حبيب أو قريب، سواءً بانقطاع العلاقة أو بموته لا سمح الله.
- أممممممممم، كم هي لذيذة، الكب كيك ما زالت ساخنة أذابت كتلة الآيس كريم التي تعلوها، فجعلتها رطبةً شهية، انظري كيف يتحول النوتيلا الذي يغمرها إلى مقرمشات ما أن يلامس كتلة الآيس كريم، أمممممممممم لذيذ، كل ما في هذه الكأس لذيذ.
كنت أتأملها وهي تعبر عن فرحتها بكأس آيس كريم بسيط، هكذا هي شما فعلاً، تفرحها أشياء بسيطة جداً، تماماً كالعديد من النساء في مجتمعنا، النساء البريئات البسيطات، الراضيات القانعات، من السهل جداً إدخال البهجة إلى قلوبهن، من السهل جداً إرضاءهن فهن غير متطلبات، كل ما يحلمن به هو الحب، الحب الصادق، ولا شيء أكثر من ذلك.
قالت وهي تلتقط بالملعقة الطويلة آخر ماتبقى من قطرات الآيس كريم في الكأس: أشكركِ، لقد أسعدتني هذه الكأس. أبتسمت وأنا ما زلت أتأملها، وأفكر من أين أبدأ الحديث معها، بما لا يجعلها تنخرط في نوبةِ بكاء أخرى.
- هل تذكرين أول مرة تناولتِ فيها الآيس كريم يا شما ؟!
- أمممممم، لا أذكر.
- و هل تستمتعين بتناوله في كل مرة ؟
- لا، ليس دائماً، ففي بعض الأحيان قد يكون أقل جودة، أقصد حسب الشركة فثمة أنواع لا أحبها.
- لماذا لا تحبينها؟
- نكهتها لا تعجبني.
- هل جربتِ آيس كريم القهوة؟
- أبتسمت: نعم، أحببتها كثيراً، رغم أن القهوة مرة ٌغالباً، لكن نكهتها تعجبني.
- يعجب الإنسان بمأكولات ومشروبات قد لا تكون لذيذة كالآيس كريم، بل مرة أو لاذعة، ومع ذلك يدمن عليها لما تقدمه من نشوةٍ في دماغه.
- نشوة؟!
- نعم النشوة، فالناس تدمن القهوة ليس للذتها، فهي مرة كما تعلمين، وإنما لما يحدثه الكافيين من نشوة في الدماغ.
- صحيح قرأت عن أمرٍ مشابه.
- لكن القهوة ليست هي الشيء الوحيد الذي يدمن عليه الإنسان رغم مرارتها وضرر إدمانها على صحته، بل قد يدمن الإنسان على أشخاص أيضاً، رغم أنهم يؤذونه، ورغم أن وجودهم في حياته يضر بمصالحه وصحته النفسية والجسدية.
- تقصدين هزاع؟
- أقصد أي إنسان تستمرين في الإدمان على علاقتكِ به، حتى حين يكون شخصاً مضراً في حياتكِ. هل أضر هزاع بحياتكِ؟
- أضر بي بالتأكيد، أضر بي كثيراً، فأنا حينما أتأمل نفسي اليوم، لا أرى من نفسي سوى الحطام، أشعر أني منهارة تماماً من الداخل، مسحوبة الطاقة، وكأني لا شيء في هذه الحياة، لكني رغم ذلك أشعر أني لا شيء أيضاً بدونه، لذلك فانا أختار جحيم قربه مني لا جحيم هجره.

- تماماً كالمدخن، إنه يختار أن يستمر في التدخين بدلاً من أن يعاني الصداع أثر انقطاعه عن التدخين، رغم أنه يرى أضرار التدخين يومياً على جسده، و ربما على كل من يحيطون به، لأنه ببساطة ضعيف الإرادة، ويعتقد أن الصداع الذي ينتابه في بداية مسيرته في الانقطاع عن التدخين سيتسمر إلى الأبد، ولا يعرف أنها مجرد مرحلة وستنتهي، وسيبدأ بعد ذلك حياة صحية و نظيفة بلا دخان، ولا معاناة ايضاً.
بدأت شما تستوعب ما أرمي إليه، و رفعت رأسها وفتحت عينيها باهتمام وبدا لي أنها تريد المزيد من الشرح، فتابعت: هل لديكم مدخنون في العائلة يا شما؟
- أحد أخوالي.
- هل سبق لكم أن نصحتموه بالتوقف عن التدخين؟
- نعم، بالتأكيد فعلنا.
- وأعتقد أنكِ أيضاً سبق لكِ أن فعلتي.
- بالتأكيد، فعلت، لكنه لم يستجب لأي شخص منا.
- أنتِ لستِ أفضل حالاً منه، فأنتِ أيضاً مدخنة، وعنيدة.
بلعت ريقها وقد أدركت ما أرمي إليه ثم قالت: أدخن علاقتي بهزاع رغم أنها مضرة بصحتي.
- تماماً
- فتابعت شما: وأسخر من كل مدمنٍ على التدخين ويعجز عن الإقلاع، بينما أنا مثلهم و ربما أكثر عجزاً منهم.
- أها، مع أنها مجرد فترة من الألم و ستمضى.
يتبع ...